تشكل جودة الخدمة الطبية التى يتلقاها المرضى النفسيون نقطة مهمة جدًا فى مجموعة المشكلات التى يواجهونها، حتى فى أكثر دول العالم تقدمًا، حتى أن بعض الدراسات الحديثة أشارت إلى أن تدنى مستوى تلك الجودة هو أحد الأسباب الرئيسية التى تجعل أعمار المصابين بالاضطرابات النفسية تقل عن أقرانهم من الاسوياء بمتوسط يصل الى نحو 20 سنة، وقد يزيد عن ذلك فى الدول النامية.
وبالتأكيد يمكن للمرض النفسى أو العقلى أن يقتل المصابين به بطريقة مباشرة، والدليل على ذلك لجوء الكثيرين منهم الى الانتحار ، حتى أن الانتحار أصبح يتصدر قائمة الاسباب الاساسية لحالات وفيات الشباب على مستوى العالم، سواء الغنية منها أو الفقيرة.
ويهتم المتخصصون وخبراء الصحة النفسية عند قياسهم تأثير الحالة الصحية على مستوى العمر، بمعرفة مستوى معيشة المرضى، من أجل معرفة التأثير الكلى للحالة على العمر، ويلجأون فى ذلك الى مقياس يسمى DALYK، والذى يعنى معدل السنة الحياتية للاعاقة.
وتعتبر كذلك الأمراض النفسية أحد الأسباب الرئيسية للاعاقة على مستوى العالم، فمرض الاكتئاب على سبيل المثال، هو السبب الثالث للاعاقة، جنبًا الى جنب مع أمراض جسدية اخرى كـ (الاسهال ــ الالتهاب الرئوى فى الأطفال)، وعندما توضع الأمراض النفسية معًا فانها تمثل ما يقرب من 15% من اجمالى أمراض العالم.
ويؤكد الواقع أن الأمراض النفسية مدمرة جدًا لحياة من تصيبهم، وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية أن هناك ما يقرب من 400 الى 500 مليون شخص على كوكب الأرض يعانون من الاضطرابات النفسية والعقلية، والمهم هنا من وجهة نظر المنظمة الدولية والمثير للقلق، أن الغالبية العظمى من المرضى لا يحصلون على الرعاية التى يمكنها أن تغير حياتهم وتحدث فرقًا شاسعًا، سواء كانت الرعاية فى شكل أدوية أو علاج نفسى واجتماعى.
وفى أوروبا الغنية والمتقدمة، على سبيل المثال، لا يحصل نحو 50% من المرضى النفسيين على العلاج، وهذه ما يطلق عليه الفجوة العلاجية، وبحصر النسبة على مستوى العالم نجد أن 90% من المرضى مهملين، وذلك يعنى أن 9 من كل 10 قصص معاناة قدر لها أن تظل متوارية عن الأنظار، اما بدافع التمييز أو الخوف من وصمة العار الاجتماعية.
وتوجد تجربة فريدة مسجلة للطبيب الهندى فيكرام باتيل، والتى لجأ فيها الى مجموعة من الاجراءات للتغلب على مشكلة الفجوة العلاجية، عن طريق ملء تلك الفجوة بين المعرفة التى يمكن أن تغير حياة المرضى وتخفف من معاناتهم، حيث ركز على حل ازمة نقص عدد الأخصائيين النفسيين المؤهلين، ولاسيما فى الدول النامية، مستلهمًا من أسلوب “تحويل المهام” فى مجال الصحة العالمية، نقطة انطلاق لتنفيذ فكرته.
والفكرة فى الواقع بسيطة جدًا، حيث تجرى العادة الى استخدام اى شخص بالمجتمع، بعد تدريبه جيدًا، ليصبح متخصصًا فى أمور الرعاية الصحية مثل الولادة، وتشخيص وعلاج الأعراض المرضية مبكرًا، وذلك للتغلب على النقص الموجود فى أعداد الأطباء والمهنيين الأكاديميين، وأثبتت الفكرة نجاحًا منقطع النظير، خصوصًا فى أفريقيا ودول جنوب اسيا.
ووجد “باتيل” انه وطالما نجح الأشخاص العاديون ــ بعد تدريبهم ــ فى المهام الطبية المعقدة والتى قد يحتاج بعضها الى تدخل جراحى، فليس من الصعب تدريبهم على أساليب الرعاية النفسية.
وعلى مدى عقد كامل من 2002 الى 2012، حققت تجربة “تحويل المهام” ثلاثة نجاحات رائعة فى علاج الأكتئاب فى دولة أوغندا، والتى يظهر نموذج التحكم العشوائي أن 90% من المصابين الذين تم خضوعهم للعلاج على أيدى هؤلاء المدربين قد تم شفاؤهم، وباكستان التى حققت فيها التجربة عن طريق تدريب الزائرات الصحية لتقديم النصائح النفسية والسلوكية للأمهات نسبة شفاء وصلت الى نحو 75%، كما حققت التجربة نفس النسبة تقريبًا فى مقاطعة غوا بالهند.
ويؤكد فكرام باتيل، أن هناك 5 عناصر مهمة يجب الأنتباه اليها، لتكون تجربة “تحويل المهام” فعالة، أولها: تبسيط الرسالة التى يتم استخدامها وتجريدها من كل المصطلحات الصعبة التى يحيط الطب النفسى بها نفسه، وثانيها: فك تدخلات الرعاية الصحية المعقدة الى مكونات اصغر يمكن نقلها بسهولة الى الأفراد الأقل تدريبًا، وثالثها: أن المجتمعات بحاجة الى أن تقدم الرعاية النفسية فيها لا فقط فى المؤسسات العلاجية ولكن فى المنازل أيضًا، وباستخدام وسائل الاتصال المتاحة فى المجتمعات المحلية، ورابعها: اعادة توزيع العدد القليل للأخصائيين النفسيين الذى يقومون بعدة أدوار الى مهام بناء قدرات المتدربين والاشراف عليها، وخامسها: أن تجربة تحويل المهام لاتصلح فقط للدول النامية أو الفقيرة، ولكنها تناسب أيضًا المجتمعات الغنية والمتقدمة جدًا.
بقلم/ د. سيد صابر | أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية