يختلف مرض الاكتئاب عن مرض الهوس الاكتئابي (الاضطرابات الوجدانية ثنائية القطبية) من حيث الأسباب والأعراض، بمعنى ان المرضين منفصلين عن بعضهما تمامًا، وان كانت التسمية القديمة للثاني بـ (الهوس الاكتئابي)، نظرًا لدخول الاكتئاب ضمن أعراضه الإضرابية.
وتتفق جميع الدراسات النفسية على ان اعداد مرضى الاكتئاب تتزايد بشكل كبير منذ القرن الماضي، فمع بداية القرن العشرين، كان اقل من 1% من سكان العالم قد مروا بحالة اكتئاب خلال حياتهم. ومع حلول منتصف القرن كان نحو 6% ممن ولدوا في الخمسينيات عانوا من حالة اكتئاب قبل سن الـ 30. فيما تصل النسبة حاليًا الى نحو 20%، بمعنى ان واحد من كل خمسة اشخاص قد يمر بحالة اكتئاب مرضية خلال احدى مراحل حياته، وتشير الإحصائيات ايضًا الى ان 1% من البالغين يصابون بالاضطرابات الوجدانية ثنائية القطب.
ويمكن للإنسان ان يصاب بالاكتئاب مثلما يصاب بأعراض الأنفلونزا في الشتاء، وهذا التعبير الطبي شاع بين نزلاء المصحات النفسية ومستشفيات الامراض العقلية خلال خمسينيات وستينات القرن الماضي، ولكن اليوم أصبح منتشرًا وبصورة مخيفة بين عامة الناس في كل مكان.
عناصر المقال
الاكتئاب “مرض سريري”
لا توجد أي منطقة بالعالم يمكن ان يقال عنها انها خالية من الاكتئاب، فمرض الاكتئاب شائع وموجود في كل مكان، وكل انسان معرض للإصابة به، وهو مرض خطير بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وتشير أحدث الإحصائيات الى ان ما بين 350 و400 مليون شخص حول العالم يعانون من الاكتئاب، وهو ليس شعور عادى بالحزن او الضيق او تعكّر المزاج، فالشعور الطبيعي بالحزن يصيب الجميع من وقت الى آخر في الحياة اليومية، اما الاكتئاب فهو حالة اشد قسوة وخطورة من ذلك، وهو اضطراب سريري، وليس شيئًا عابراً.
وتبين أن مرض الاكتئاب يأتي في المرتبة الثانية من حيث الحالات المرضية المسببة للعجز، وهي حقيقة لا يزال يجهلها اغلب الناس، فالنظرة العامة تجاه مرض الاكتئاب لا تزال دون مستوى خطورته، ولكن الأهم ان تشخيصه ممكن وعلاجه ممكن ايضًا.
الاكتئاب حول العالم
بالنظر الى بعض البلاد التي أصبح الاكتئاب يصيب عدداً كبيراً من سكانها، وينتشر بين سكانها بصورة مخيفة، نجد اليابان مثلا، والتي كان مصطلح الاكتئاب فيها مجهولاً لفترة طويلة، إلا أنه دخل الى التداول فجأة بين الناس هناك مع مطلع الألفية الجديدة، ومنذ ذلك الحين ارتفع عدد الذين شخصوا بإصابتهم بالاكتئاب من 250 ألف، الى مليون شخص.
وأدركت اليابان حجم المشكلة التي هي بصددها، عندما أدان القضاء الياباني احدى الشركات بشأن مسئوليتها عن انتحار أحد موظفيها، بعد تحميله امورًا في العمل خارج قدرته، حيث وجدت الدولة ان حالات الانتحار اصبحت تتعدى الـ 30 ألف حالة في العام الواحد، لهذا كانت إدانة القضاء للشركة التي انتحر موظفها محل ترحيب من قبل الرأي العام الياباني.
وتزايدت أعداد هذا النوع من القضايا، وبدأ اليابانيون يرون ان الاكتئاب هو التفسير الأساسي للتزايد الكبير في حالات الانتحار، وهكذا نشأ رابط سببي بين الارهاق في العمل، والاكتئاب، والانتحار.
وبات الاكتئاب واعراضه معروفاً في اليابان، مع زيادة حملات التوعية المضادة للانتحار، واعلانات العقاقير المعالجة له، والتي غزت السوق الياباني، كما حققت الحكومة تقدمًا كبيرًا مع الشركات في التخفيف من الضغوط التي تُلقى على كاهل الموظفين، ولكن لم يتغير شيء، ولا تزال معدلات الانتحار في تزايد مستمر.
وليست اليابان وحدها هي التي تواجه ارتفاعًا ملحوظًا في حالات الاكتئاب، فهناك الاتحاد الأوروبي لمواجهة الاكتئاب، والذي اسس في المانيا، 15 دولة اوروبية، ويقدم استشارات منتظمة لشركات صناعة الادوية.
وتتزايد كذلك حالات الاصابة بمرض الاكتئاب في المانيا، والتي يرجعها البعض الى الضغوط الوظيفية والحياتية، بجانب اجهزة تشخيص المرض والتي اصبحت أكثر صرامة.
الدليل التشخيصي يحسم الاعراض
اصبحت تقنية فحص الاكتئاب تطبق في عدداً كبيراً من دول العالم، والتي أوصت بها منظمة الصحة العالمية، مما جعل عدداً أكثر من الناس يستشيرون الاخصائيين والاطباء النفسيين، وتم تسجيل كل حالات التشخيص الجديدة في احصائيات.
وبإلقاء نظرة عن كثب على هذه التقنيات، وتعريفها للمرض، نجد ان هذه التقنيات تؤكد ان طرق تعريف الاكتئاب كثيرة ومختلفة، حيث تكون الطريقة المعيارية لتعريف الاكتئاب لدى الاطباء هي استخدام الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، والذي يضم معايير لأهم اعراض الاكتئاب، وتتضمن هذه المعايير:
• الحزن
• اللامبالاة
• اضطرابات النوم
• فقدان الشهية
• انخفاض الطاقة والحيوية
• اليأس من المستقبل
• النظرة التشاؤمية للحياة
• والشعور بالفشل ازاء ما حققه الشخص
وعادة ما يصاحب هذه الاشياء، شعور بالعجز والتفاهة، وفى الحالات الشديدة يصاب المريض بالوهن، ويصعب عليه فعل أي شيء كان يفعله في السابق، ويكون مزاجه في أسوأ حالاته، بالمقارنة مع الدرجة التي قد يكون عليها لو فقد المريض اعز الناس عليه.
والدليل التشخيصي للأمراض النفسية، أشبه ما يكون بالقاموس الضخم، لهذا يسهل على الاطباء تشخيص الحالات المرضية بدقة، وبالنسبة لمرض الاكتئاب فيجب ان يكون المريض يعاني من أربعة أعراض على الأقل من الأعراض المرضية التقليدية، وذلك بشكل يومي متواصل لفترات تتعدى الـ 6 اسابيع، لكي يشخص المريض على انه مصاب الاكتئاب.
مناهج تشخيصية صارمة
الجديد في هذا الدليل هو أنه وللمرة الأولى في تاريخ الطب النفسي، يُفرض على الأطباء اتباع مناهج صارمة من أجل تشخيص الاصابة بالاكتئاب، فقبل عام 1980 كان إذا عرض مريض على طبيبين نفسيين فلن يكون تشخيصهما لحالته متطابق، وكان ذلك يعد بمثابة الكارثة الموجودة في الطب النفسي، ولهذا جاء الدليل التشخيصي، كمحاولة لوضع منهج متطابق لدى كل الاطباء النفسيين، وأدى ذلك الى زيادة كبيرة في دقة التشخيص.
وأيضًا أَدخل الدليل التشخيصي للأمراض النفسية ميزة جديدة وهي قدرة المريض على تشخيص حالته، دون الحاجة الى الطبيب، ولكن تظل مهمة الطبيب هي الرئيسية في وصف العلاج وتحديد درجة شدة المرض.
ومن السهل جدًا استخدام الدليل الشخصي للأمراض والاضطرابات النفسية، حيث يستطيع أي شخص التعامل معه، ومع انه كان مخصصًا للخبراء والمتخصصين في البداية، بات حاليًا يستخدم على نطاق واسع، حيث أصبح بإمكان الدليل ان يقدم تشخيصًا فوريًا من خلال استبيان بسيط.
النقاش يزداد حول الهوس الاكتئابى
وفيما يتعلق بالاضطرابات الوجدانية ثنائية القطبية، (الهوس الاكتئابى)، فإنه أصبح يجرى نقاشة على نحو واسع في العالم، وبات اسمه يتردد بكثرة في المحافل العلمية، وفى الدوريات الطبية المعنية بعلم النفس.
ويمكن وصف الاضطراب الوجداني ثنائي القطب، بأنه العيش تحت رحمة تغير المزاج، فالمريض يتحول من السعادة المفرطة الى الحزن العميق والشديد، ويصبح عاشقًا مع هذه الاعراض الى الحدود القصوى، ومقتنع بأنها امر هائل ومذهل، ولكن خلال حدوث ذلك يشعر المريض بوجود هاجس داخله، وكأن دوائره النفسية تصدر اشارات كهربائية، او ان أحد صماماتها على وشك الانفجار، وغالبًا ما يصاب مريض الاضطراب الوجداني ثنائي القطب بالانهيار.
معتقدات مغلوطة
وهناك الكثير من المعتقدات المغلوطة حول الهوس الاكتئابى، حيث يظهرها الاعلام على انها شيء حميد يتصف به الاشخاص الناجحون، وبما ان الاكتئاب مرتبط بالعجز عن التفوق العملي والانجاز، فإن هذا المرض يبدو في نظر الكثيرين بعيد عن تجربة الاكتئاب الحقيقية، ولكن الحالة في هذا المرض تكون اشبه بالتزاوج بين انتاجية الفرد العملية المرتفعة، وبين الانتاجية المنخفضة او المنعدمة.
المرض نوعين
ينقسم مرض الاضطراب الوجداني ثنائي القطب، الى نوعين، (الأول)، وهو الاخطر، حيث يتميز بتأرجح قوى بين قطبين من الهوس والاكتئاب، الامر الذى يؤثر على النشاطات اليومية الطبيعية بطريقة سلبية للمريض، كما ان اعراضه تؤدى الى تحطيم الفرد لعلاقاته الاجتماعية، والطور الهوسى له يتمثل في التصرفات المتهورة، والتحول المزاجي المفاجئ مثل الغضب الشديد الذى يتبعه فرح مفرط، مع قلة الرغبة في النوم، بالإضافة الى ارتفاع التقدير الذاتي، وتسارع الافكار، والانشغال بالأمور غير المهمة، واسراف شديد في التسوق، وتصرفات جنسية غير مشروعة. اما الطور الاكتئابى للاضطرابات، فإنه يشبه اعراض مرض الاكتئاب، مثل الارهاق المستمر، الحزن، فقدان الرغبة في ممارسة الهوايات، حدوث تغيرات في نمط الحياة والنوم، صعوبة التركيز، انعدام القيمة، اليأس، كثرة التفكير في الموت والانتحار.
وعدم ثبات الحالة المزاجية، المصاحبة للنوع (الأول) من الاضطرابات الوجدانية ثنائية القطب، يشبه الحلقات، بمعنى ان المرضى قد يعانون من الحلقات الهوسية والحلقات الاكتئابية، بالإضافة الى حلقات ما تحت الهوس، وهي حالة اقل من الهوس، وتتميز بالنشاط المفرط والنشوة.
وحلقات الهوس تبدأ عادة بشكل مفاجئ، وتستمر بمتوسط أربعة أشهر، وفى بعض الحالات تستمر لنحو ستة أشهر، ولكنها في الاغلب لا تقترب من السنة، وفى بعض الحالات تكون الاعراض حادة، وتتطلب تنويم المريض بالمستشفى، حيث يشير ذلك الى معاناة المريض من اكتئاب شديد مما يجعله في دائرة الخطر من الاقدام على الانتحار، او انه يعاني من حلقات هلوسة خارجة عن السيطرة كليًا.
وكذلك قد يعاني مرضى الاضطرابات الوجدانية ثنائية القطبية مما يسمى بـ (الحلقات المختلطة)، وهي تتميز بالاكتئاب مع اعراض الهوس، او ما تحت الهوس، وتتضمن كذلك التوتر، وحدة الطبع، وتسارع الافكار، والارق، وتؤكد بعض الدراسات ان هذه المجموعة من الاعراض الهوسية والاكتئابية ربما ترفع خطر إقدام المريض على الانتحار بشكل كبير، كما تشير الدراسات الى ان السبب الدقيق للإصابة بهذه الاضطرابات غير معروف، حيث يعتقد انها متعددة، وتشمل عوامل جينية، بيئية، وشخصية قد تكون هي المسئولة عن الاصابة به.
والابحاث تشير الى ان مرضى الاضطرابات الوجدانية ثنائية القطبية ربما لديهم اختلال في بعض المواد الكيميائية المهمة في الدماغ، وتسمى النواقل العصبية مثل النورابينيفرين، السيروتونين، الدوبامين، وكل واحد منهم يلعب دور مهم في المزاج والمشاعر، بالإضافة الى ان حوالي نصف المرضى لديهم فرد على الاقل في العائلة يعاني من اختلال في المزاج، كما ان وجود المرض في احد الوالدين ربما يرفع نسبة الاصابة به الى نحو 15 الى 25%، فيما ترتفع النسبة الى 80% في حالة وجود توأم متطابق.
وأما النوع (الثاني) من الاضطرابات الوجدانية ثنائية القطبية او الهوس الاكتئابى فهو يحدث إذا عانى المريض في الماضي، ولو مرة على الاقل، من ظاهرة الاكتئاب، الذي يميل الى الهوس الخفيف، ونوبة الهوس الخفيف تشبه في اعراضها نوبات الهوس العادية، ولكن اعراضها تكون أكثر اعتدالا، وتستمر فقط لبضعة ايام، وخطورتها تكون بدرجة ليست كبيرة.
وتتميز فترات الاكتئاب المصاحب للاضطرابات الوجدانية ثنائية القطب من (النوع الثاني)، انها تكون اطول مما هي عليه في (النوع الاول) بشكل ملحوظ. ومن الممكن أن تحدث الاصابة بالاضطراب ثنائي القطب في أي عمر، الا أنه غالبا ما يظهر خلال فترة المراهقة من 14 الى 19 سنة، فيما تقل فرصة ظهوره بعد بلوغ سن الرشد عند الـ 40 سنة، ويصاب بالمرض الرجال والنساء من مختلف الجنسين بالنسبة للعمر نفسه تقريبًا.
فيما يتفاوت نموذج التأرجح المزاجي في الاضطراب ثنائي القطب بشكلٍ كبير بين الناس، فعلى سبيل المثال، يحدث لدى بعض الأشخاص نوبتان للمرض في خلال مدة حياتهم كلها، ويكونون في حالة مستقرة وطبيعية بينهما؛ فيما يعاني البعض الاخر من نوبات كثيرة، وقد تميل حالاتهم بين النوبات الى الاستقرار، او تكون مضطربة.