يشكوا الكثير من الشباب في مجتمعاتنا العربية من انخفاض الدافعية نتيجة لافتقادهم إلى التحفيز، ولا يجدون من يتحدث معهم عن دوافعهم النفسية وكيفية تحفيزها، بل لا يجد الشباب العربي أي اهتمام واعي من المجتمع بما يُحفّزهم ويثير شغفهم وقواهم الإبداعية. وإذا ظهر المتحدث التحفيزي الذي يستطيع ان يمدهم بالطاقة التي تدفعهم نحو تحقيق أحلامهم، فإنه للأسف الشديد لا يلقى ترحيباً ولا دعماً مناسباً، لا من أجهزة الإعلام ولا من المؤسسات الحكومية.
ويرجع سبب ذلك في أحسن الأحوال إلى الجهل النفسي المترسخ في مجتمعنا، فصاحب المؤسسة يجهل أهمية الاهتمام بالعامل النفسي لدي الموظفين، لذلك لا يخصص ميزانية للاهتمام بصحتهم النفسية وتحفيز دوافعهم بما ينعكس علي كفاءة عمل المؤسسة. وكذلك حال الوزير في وزارته، ورب الأسرة في أسرته. وحتى بعض مراكز علاج الادمان على المخدرات الغير واعية والغير مؤهلة تجهل ذلك ولا يستخدمون طريقة التحفيز في التعامل مع المريض ودفعه إلى الإصرار على طريق التخلص من المخدرات والرجوع إلى حياته الطبيعية التي خُطفت منه مرة أخرى. ولا شك انهم إذا أدركوا ما لهذا الأمر من الأهمية، وما يترتب عليه من أرباح سيسارعون إلى تطبيقه إذا كان لديهم رغبة صادقة في التطور.
وكذلك اجهزة الاعلام في مجتمعنا التي تعتبر ان الاهتمام بالأخبار والكوارث أهم من الاهتمام بالصحة النفسية، وان الفنانين أهم من العلماء، وان الاغاني والكليبات أهم من الكتب والاختراعات، وهم في الحقيقة يتعاملون مع المشاهد كسلعة يتم بيعها للمعلن ليقبضوا منه الثمن، ففي النهاية هو اعلام رأسمالي يتعامل مع المشاهد كسلعة وليس كإنسان يجب الاهتمام به وتغذية عقله بالمعارف التي تبارك حياته وتنير طريقه. وإذا طلبت منهم تحويل هذا الكتاب إلى محتوى مرئي ليصل إلى أكبر عدد من الشباب ويمدهم بالوعي والطاقة التي تدفعهم إلي العمل والنجاح، ستجدهم يطلبون منك الثمن، فكل ما يهمهم في النهاية هو المال وليس نوعية المحتوى ومدى تأثيره علي المشاهد. لذلك يجب ان يتم التحكم في هذا الاعلام الرأسمالي من قبل الحكومات بحيث يعمل أولاً علي خدمة الصالح العام، ولا شك ان الاهتمام بالصحة النفسية وبالتثقيف النفسي للمواطنين هو أول ما يحقق المصلحة العليا للمجتمع.
إن المتحدثين التحفيزيين هم مصدر طاقة أهم من البترول، ويجب أن يتصدروا الشاشات وأن تُخلى لهم الساحات ليمدوا الشباب العربي بالطاقة التي تدفعهم نحو تحقيق النهضة المنشودة. وذلك لأن النهضة يجب أن تسير في طريق بناء الإنسان أولاً، وأي طريق آخر غير ذلك في الوقت الحالي ما هو اختيار خاطئ.
وقبل أن نعرف كيف نوقظ همّتنا ونشعل نيران رغبتنا في النجاح يجب أن نعرف أسباب انخفاض دافعيتنا، يجب أن نعرف مواطن ضعفنا حتى نستطيع أن نحوّلها إلى مواطن قوة، ويجب أن نعرف ما الذي أوصلنا إلى هذا المستوى المتدني من الدافعية والتحفيز حتي نتخلص منه.
أسباب انخفاض الدافعية:
يعود انخفاض التحفيز والدافعية عند أغلب الناس إلى أسباب كثيرة، منها ما هو نفسي كالاضطرابات النفسية التي تصيب الفرد والتي تلازمه في كثير من الاحيان وتتحول إلى إعاقات نفسية نتيجة لعدم الوعي بها، ومنها ما هو بيئي واجتماعي مثل الضغوط الاجتماعية المختلفة، وعدم وعي المجتمع بضرورة الاهتمام بالصحة النفسية لأفراده، مثل عدم اهتمام الحكومة بالتثقيف النفسي، وعدم تخصيص ميزانية لعلاج الاعاقات النفسية، وكذلك الثقافة السائدة بالمجتمع مثل اعتبار زيارة الطبيب النفسي مرتبطة بالجنون، والتكتم علي المشكلات النفسية .. وغيرها. ولكنني سأركز فيما يلي علي مجموعة من الأسباب والتي اعتبرها من اهم اسباب انخفاض الدافعية وهي :
1. عدم امتلاك رسالة مقدسة:
أحد أسرار توليد المستويات العليا من الدافعية والطاقة هو امتلاك غاية عليا وهدف أساسي محدد بوضوح يُمثل الغرض من الحياة. وهذه الغاية تنبع من إيماننا بأن الله خلق لكل إنسان مهمة خاصة ليقوم بها في هذه الحياة، أو ثغره عليه أن يسدها، أو مصير خاص عليه أن يكتشفه، أو أسطورة شخصية ليعيشها. وعندما يكتشف الانسان هذه الغاية التي تمثل الغرض من وجوده في هذه الحياة، تصبح بعد ذلك هي رسالته المقدسة وعقيدة تترسخ في أعماقه لتصوغ فلسفته الخاصة التي تجعل لحياته معنى وهدف.
الهدف من الحياة ان تحيا لهدف .. روبرت برنز
كل إنسان فريد من نوعه، ولكل إنسان رسالته المقدسة التي تعكس هذا التفرّد، وعليك أن تبدأ في اكتشاف رسالتك الخاصة. اذهب وتأمل ذاتك كثيراً لتكتشفها، آمن بأنك بلا حدود، وبأن إمكاناتك بلا حدود، وانصت إلى قلبك. استرجع أحلام الطفولة، وتمسك بها وإن بدت لك خبلاً وجنوناً. تأمل محيطك، وانصت لمن حولك، وستجد ملاكك يُحدثك من خلالهم ليخبرك بما عليك فعله. آمن بإشارات القدر، واجعلها ترشدك. تحدث مع الطيور مع الأشجار مع الطريق مع الحديد، اطرح عليهم أسألتك، وانصت إلى الجواب الذي ينبع من أعماقك. هذه ليست استعارات أدبية، بل هي تمرينات ميتافيزيقية فعاله، وعليك أن تفكر فيها بجدية. جد هدفاً، وآمن به، وعش من أجله.
2. تدنّي مستوى الطموح:
بمعنى أن يحدد الإنسان أهداف صغيرة لا تتناسب مع إمكاناته العظيمة التي غرسها الله فيه، بسبب أنه لا يعرف نفسه. وتلك الأهداف الصغيرة لا تحفّز الرغبة العارمة بداخله، ولا تثير عواطفه، ولا تمده بالطاقة إلا بقدر ضئيل جدا ربما أصغر مما تحتاجه أهدافه الصغيرة تلك، وذلك لأنه يعظّم تلك الأهداف في نفسه، ما يعني في نفس الوقت انه يصغّر من ذاته أمامها. نعم، ان اختيارنا للأهداف الصغيرة يعني على مستوى اللاوعي أننا نختار ان نعيش الحياة صغاراً. انها نقطة ضعف أخرى لدى الإنسان يجب ان نشير إليها ونظهرها، لأنها تجعل الانسان يحكم على نفسه بالعجز دون أن يدري.
وما أكثر الذين لديهم هذا الضعف في مجتمعاتنا العربية، وما أكثر الشباب الذين لا تتعدى أهدافهم وطموحاتهم مستوى المتطلبات والحاجات مثل الوظيفة والزواج والمنزل والسيارة … وإلخ من احتياجات ومتطلبات الحياة المادية. وهنا يجب أن نفرّق بين الرغبة التي منشأها ومنطلقها الإيمان بالذات وبالإمكانات التي وهبها الله لنا، وبين الرغبة التي يكون منشأها ومنطلقها هو الشعور بالاحتياج أو الافتقاد الي شيء ما. في الأولى تظهر عظمة الانسان، وفي الاخيرة يظهر ضعفه وعجزه. ولا شك أن الرغبة التي تنطلق من إيمان الانسان بإمكاناته أقوى بمئآت المرات من الرغبة التي تنطلق من الحاجة.
ان الحاجة ما هي إلا مظهر من مظاهر العجز الذي يتغذى علي ذاته وينموا بداخلنا دون ان نشعر. وكيف يمكن لرغبة منشأها العجز أن تتحول بسهولة إلي موضوعها؟! ان الطريق الآخر هو أن نتجاوز هذا المستوى من الحاجة، وأن نرفع سقف طموحنا وأن نرغب في أكثر بكثير مما نحتاجه.
ان مشكلة اغلب الناس أنهم يضعون لأنفسهم أهداف صغيرة، ويفكرون في هذه الأهداف من منطلق العجز، بينما الجزء المتنور بداخلهم والذي يدرك عظمتهم، يعرف أنها أهداف صغيرة لذلك لا يتأثر بها ولا يتحفّز لها.
نعم، هناك جزء متنور بداخلنا يسكن في اللب الأصلي لنا يعرف من نحن ويعرف عظمتنا، وهو جزء إلاهي من روح الله، ولكننا نفقد اتصالنا به بسبب شوائب اكتسبناها من قبيلتنا التي تدعى المجتمع. وهذا الجزء يراقبنا طوال الوقت، ويشاهد كل ما نفعله. وعندما نغش أو نكذب أو نكره أو نحقد أو نظلم أو نخون أو نؤذي الآخرين بأي شكل أو نحكم على أنفسنا بالعجز يري كل ذلك. وعندما نهين أنفسنا باختيارنا أهداف صغيرة، وننشغل بها طوال الوقت، ونجعلها أهدافنا الرئيسية في الحياة يرى ذلك أيضاً، ولا يمكنه أن يصدّق كم نحن مُزيّفين وغير متطابقين مع ذاتنا الأصلية، فينسحب، وينغلق على نفسه، ويتركنا في سجن الأنا الزائفة العاجزة التي اخترناها لأنفسنا وبنينا عالمنا على أساسها.
وعندما نعرف ذلك، يكون بإمكاننا الاختيار ما بين ان نظل في هذا السجن من الزيف والعجز، وبين عيش الحياة بالعظمة التي غرسها الله فينا. يمكننا أن نختار ما بين الأهداف الصغيرة التي لا تعني إلا العجز، وبين الأهداف الكبيرة التي تعني العظمة والإيمان بالقدرة الإلهية الموجودة بداخلنا. يقول أحد الشعراء:
الحياة هي مجرد صاحب عمل، يعطيك ما تطلبه، ولكن بمجرد أن تحدد الأجر، عليك أن تحمل المهمة.
احلم، واجعل احلامك عظيمة. لا تضع لنفسك أهداف منطقية تعرف كيف ستتحقق مثل ( إذا فعلت كذا وكذا سأحصل على كذا) ، أو ( إذا تحقق كذا وكذا ثم فعلت كذا ففي النهاية سأحصل على كذا )، لا تجعلها كذلك، فهذه هي الأهداف الصغيرة، بل اجعل أهدافك بعيدة عن منطقك، لأن ملكة المنطق لديك قد تكون كسوله ولا تحب العمل المعقد، فلا تعتمد علي المنطق، واجعل أهدافك فنتازية، وفكر فيها كثيراً، وآمن بها. في البداية ستشعر بالخوف أو بالتوتر كلما فكرت فيها، لأنها تختلف عن أهدافك وأفكارك العادية، ولكن مع تمسكك بها سينهار هذا الحاجز من الخوف والتوتر. هذه الأهداف العظيمة ستجعلك تتذكر عظمتك، وطالما تفكر فيها باستمرار، ستكون على اتصال بأفضل ما فيك.
ونستكمل بإذن الله بقية أسباب انخفاض الدافعية في المقال القادم ..
بقلم د. سيد صابر | أستاذ الفلسفة وخبير التنمية البشرية