كان التاريخ طريقًا صعبًا للذين يطلق عليهم (مرضى عقليين)، فلم يكن هناك امل فى شفائهم، فقط تعذيب لا نهاية له، وكانوا يحتجزون بعيدًا بحيث لا يسببون اذىً لأحد، ولا تسمع اصواتهم. ولعدة قرون كان هناك اعتقاد بأن اولئك الذين يتصرفون بطرق غريبة كانت تمسهم الارواح الشريرة، او الشياطين، وبالتالى كانوا مخيفين. وحتى اليوم عند عامة الناس درجة من الخوف تجاه هؤلاء الذين تشخص حالاتهم على انها اضطرابات نفسية او يظهر منهم سلوك غير عادى، لأنهم لا يفهمون المرض العقلى.
والمرض العقلي قد يكون غير مفهوم، ولكن معروف من اين ينبع، فمخ الانسان، هو الشئ الاكثر تعقيدًا في الكون، ويحتوي على بلايين الخلايا العصبية المربوطة معًا بطرق معقدة، وكأى عضو اخر بجسم الانسان، يتأثر المخ بالمرض، ويمكن ان يؤدى ذلك الى قصور فى ادائه.
عناصر المقال
أول جراحة في تاريخ البشرية
دون ان يكون لهم معرفة بالامراض والاضطرابات التى تصيب المخ ألقى اسلافنا باللوم على قوى خارجية خارقة فى الاصابة بحالات الجنون، حيث كانوا يعتقدون بأن قوى سوداء دخلت الى العقل، وقادت الضحية التعيسة الى الجنون، وتعتبر طريقة اخراجها اول عملية جراحية حدثت فى تاريخ البشرية. وكانت عن طريق ثقب جمجمة المريض ضمن بعض المعتقدات السائدة بأن العقل الملوث يحتاج الى التعرض للهواء النقى بالاضافة الى اعتقاد اخر بأن الشياطين الموجودة داخل الرأس بحاجة الى ثقب لتنفذ منه الى الخارج.
كاليجولا .. الامبراطور المريض بالفصام
الرومان القدماء القوا باللوم على القمر فى الاصابة بالاضطرابات العقلية، فكلمة (مجنون) فى الانجليزية، جاءت من كلمة (نونا)، وهى الاصل اللاتينى لكلمة قمر، وعرف الرومان كثيرًا عن الجنون، لأن من بينهم كان على الاقل واحدًا كل فترة فى السلطة.
ومن بين جميع اباطرة الرومان المجانين، برز (كاليجولا)، والذي بدأ جنونه باعتدال، حيث جعل حصانه عضوًا فى مجلس الشيوخ، ولكنه اخذ فى الانحدار بعدها، فأُثناء عهده اظهر ميلاً الى الجنون ووحشية، وجنون عظمة نادرًا ما وُجد مثيلًا له عبر التاريخ. فيما تشير الدراسات التاريخية الحديثة الى ان مرض (الفُصام) كان المسئول عن سلوكه المتطرف، وفقط منزلته هى الوحيدة التى اعفته من مصير المرضى العقليين فى عصره.
المسيح (عليه السلام) واتباعه
وهب الله سبحانه وتعالى المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) القدرة على شفاء المرضى، حيث عالج المرضى العقليين بإذن الله سبحانه وتعالى، اما من ادعوا اتباعه من بعده فكانت فلسفتهم هى محاربة النار بالنار، فكان المرضى العقليين يحرقون ويجلدون، من اجل اخراج الشياطين من اجسادهم.
ارجوحة اولارهين
وبالاضافة الى ذلك كان هناك طرق لتطهير المرضى مما لحق بهم كثيرة فى الغرابة، مثل (ارجوحة اولارهين)، والتى تم تصميمها فى اوروبا من قبل رجل ايرلندى، وتم استقدامها فيما بعد الى الولايات المتحدة، وكان المريض يتم ربطه فى احد الكراسى، ويقوم المعالجون بتدويره، حيث كانوا يعتقدون ان الامراض العقلية محمولة فى الدم، والسوائل الموجودة بالجسم، وبتدوير الشخص المريض عن طريق قوة الطرد المركزى، فإن الدم الملوث يبتعد عن الدماغ الى الذراعين وباقى الجسم، فإذا تقيئ المريض اثناء ذلك، فكانوا يعتقدون انه يتخلص من بعض هذه الامراض.
الكرسي المهدئ
كما وجدت وسائل اخرى مثل (الكرسى المهدئ)، حيث دمجت كل طرق تعذيب المرضى العقليين الوحشية فى نوع واحد، حيث كان يربط المريض فيه لفترات تصل الى 6 اشهر، وكان يتعرض لتجريح جلده بالالات الحادة، بالاضافة الى تغطيسه فى السوائل الباردة، ووضع اقدامهم فى السوائل الساخنة، وكل ذلك كان من اجل اعادتهم الى الواقع.
اسطورة ديمبلى
مع الايذاء البدنى الذى واجهه المرضى العقليين فى كل مكان، لم يكن مستغربًا، انشاء مصحة او (ملجأ) للمرضى العقليين، فى هذه العصور القديمة، ووجدت هذه المصحة فى ايرلندا، وتتلخص قصتها الاسطورية فى ان ملكتها اصيبت بمرض مميت، فقرر الملك الذى اشتد عليه الحزن نتيجة فراقها، اعتبار ابنته (ديمبلى) بديلة لأمها، وهو ما رفضته الابنة، فقررت الهروب الى بلجيكا، ومع همس الشياطين له فى اذنيه، فتش عن ابنته حتى وجدها، والتى كررت رفضها ان تكون بديلة لأمها، فعاودت الشياطين الوسوسة للملك الغاضب حتى قطع رأس ابنته.
القديسة ديملبي
ولأنها ماتت وهى تقاوم قوى جنون ابيها السوداء اصبحت (ديملبى) القديسة المقاومة للجنون، وهى ترسم وتجسد عادة وهى تضرب شياطين الجنون الملتوية، واصبحت كنيستها بمدينة جيل البلجيكية موقعًا مقدسًا، وبدأت الاساطير تتناقل عن حالات الشفاء التى تحل بزوارها، ومع انتشار تلك الاخبار جاء المزيد والمزيد من المرضى من اجل طرد شياطينهم.
البداية
فى البداية كان المرضى يمكثون فى الكاتدرائية، ومع تزايد اعدادهم، طلب الكهنة من سكان المدينة مساعدتهم، وهكذا اخذت العائلات التى تقيم فى محيط الكاتدرائية المرضى الى بيوتهم واعتنت بهم، وكانوا يعاملون كأحرار، ويتركون للعيش وكأنهم اسوياء، فيما كان امثالهم فى اماكن اخرى لا يزالون يتعرضون للتعذيب، واستبدلت حرياتهم بالسجن والابعاد.
الوضع الحالي
وحاليًا، تتبع المصحة التى لا تزال موجودة فى نفس المكان سياسة الباب المفتوح، مما يعنى ان المرضى يسمح لهم بالذهاب والعودة من والى المصحة بحسب رغبتهم، ودون وضع قيود على ذلك، وبالاضافة الى المساعدة الطبية، توفر المصحة للمرضى نشاطات لإبقائهم مشغولينن والسماح لهم بالتعبير عن أنفسهم.
نهاية عصور استحواذ الشيطان
وبدءً من القرن الـ17، بدأ اعتقاد استحواذ الشياطين على عقول المرضى يختفى فى الكثير من المناطق بالعالم، وبدلاً من تعذيب المرضى، تم حبسهم بعيدًا عن بقية افراد المجتمع، واصبح الاسم الذى كان يطلق على المكان الذى يسجنون فيه واحدًا من اكثر الكلمات سيئة السمعة.
متحف الحرب الملكى سئ السمعة
كان متحف الحرب الملكى فى لندن بالمملكة المتحدة من اكثر المآوى النفسية سيئة السمعة، وهو يعتبر اول مكان اطلق عليه رسميًا (مأوى مجانين).
وتقدم مجسمات وتماثيل المرضى المعذبين الموجودة بالمتحف شهادة حول الاحوال السيئة التى عاش فيها نزلاء المأوى، وهذه الاحوال وثقت عام 1735 فى لوحة ويليام هوجارث الُمسماة (تقدم الخليع)، وهي تظهر مشاهد جنونية بكل معنى الكلمة، وفيها مرضى قذرون مشوشون وهم يتجولون بحرية دون اشراف فى طرقات المأوى، حيث كانوا يمكثون فيه كامل عمرهم.
وكشف تحقيق اجرى عن مأوى لندن عام 1813، عن وجود أمور مرعبة اخرى من بينها مصير مريض يدعى جيمس ويليام نورث، والذى حبس فى سرداب المأوى لمدة تتجاوز الـ10 سنوات، وهو مربوط بقيد حديدى غلف جسمه كله من الرقبة وحتى قدميه.
الفرنسي فيليب بينيل .. “نقطة تحول”
فى عام 1790 عين الطبيب الفرنسى فيليب بينيل مسئولا عن مشفى المرضى العقليين فى باريس، حيث روع مما رآه من المشاهد التى كانت تعكس حالة الاهتمام بالمرضى. وامر بينيل بإطلاق المرضى والذين كان اغلبهم مقيدون بالسلاسل، وبدلاً من الزنزانات وفر لهم غرفًا مشمسة مع تمتعهم بحرية الوصول الى فناء المشفى، وكان هذا نقطة تحول رئيسية فى طريقة معالجة المرضى النفسيين والذين يعانون من الاضطرابات العقلية، حيث أدت فلسفته الى معاملة المرضى باللطف بدلا من القسوة موجة اصلاح فى الطب النفسى.
القرن الـ19 .. ميلاد طب الأمراض العقلية
وفى القرن الـ19، ولد طب الامراض العقلية، وخلال هذه الفترة اعتقد المتخصصين ان الامراض العقلية كانت لها اسس حيوية تحتية فى مخ المريض، وهو شئ حقيقى، ولكن العلم كان متخلف جدًا فلم يكن علم الاعصاب مثلًا قد ولد بعد، ولذلك لم يستطيعوا اثبات ما هى تلك الاسس العلمية التحتية للامراض العقلية، وهكذا عاد التركيز على ان القوى الكونية الغامضة، هى التى تؤثر على السلوك البشرى.
وسميت هذه القوى الكونية بـ(جاذبية الحيوانات)، من قبل مكتشفها فرانك ميزلر، والذى اعتقد ان الحالة العقلية للمرضى يمكن السيطرة عليها بتوجيه هذه الطاقة من خلالهم، ويتم ذلك من خلال ادخال المريض فى غيبوبة، وتم تبنى طريقة علاجه من قبل الاطباء النفسيين، وبدل اسمه ليصبح التنويم المغناطيسى لجعله موثقًا اكثر.
فرويد والتحليل النفسى
بدأ اطباء نفسيين كـ جين شارتر، تجربة كشف الافكار والمعتقدات الداخلية للمرضى العقليين عن طريق التنويم المغناطيسى، ولكن احد تلامذته هو من قام فى الحقيقة بعمل ثورة فى مجال طب الامراض العقلية عندما ادرك بأنه ليس من الضرورى على المرضى ان يدخلوا فى غيبوبة ليتمكنوا من تذكر اعمق مشاكلهم، وان كل ما يحتاجونه بالفعل هو اريكة مريحة.
كان هذا الطالب هو سيجموند فرويد، والذى جاء بنظرية التحليل النفسى فى نهاية القرن الـ19، وكانت له رؤية مختلفة كليًا عن اسباب المرض العقلى، حيث اكد ان الامراض العقلية والنفسية تنشأ من الاشياء الشاذة الموجودة فى التنشئة الاجتماعية خلال فترة الطفولة المبكرة، كرؤية الام عارية او سماع اصوات الاب والام خلال ممارستهما الجماع لافتًا الى ان بإمكان هذه الاشياء ان تدمر الاطفال الى الابد، وتصيبهم بأشد الامراض النفسية فتكًا.
وفكرة التحليل النفسي تدور حول ان هناك جزءً من العقل (العقل الباطن)، والذي لا يمكن للافكار العقلانية العادية اليومية الوصول اليه، وهو جزء جامح جدًا من العقل، ويحتوي على كل انواع الرغبات والذكريات المكبوتة منذ الطفولة، والتى قد تؤثر على السلوك الحالى للانسان.
وكان الطريق للتعرف على الافكار والمعتقدات المختزنة فى العقل الباطن وكشفها، هو ان يسأل الطبيب الاسئلة الصحيحة، وان يجاوب المريض عليها بعناية، وان يقول فيها كل ما يخطر بذهنه حتى وان كانت اشياء كريهه من وجهة نظره، او تبدو غير مهمة، وليس لها علاقة بالواقع وغير منطقية.
وغالبًا ما يجد الباحثون فى نظرية التحليل النفسى لفرويد عدد كبير من الملاحظات الاستثنائية، والتحليلات والتخمينات، التى يمكن ان تدرس فى القرن الحالى الـ21، حيث أن تحت مظلة التحليل النفسى يوجد 20 اتجاه يحاولون فهم الانسان عقليًا وسلوكيًا، حيث يبوح المريض بافكاره وأوهامه وأحلامه، ليكشف للطبيب المعالج حالات الصراعات اللاشعورية التى هى السبب الرئيسى فى حدوث الاضطرابات النفسية والعقلية له.